فصل: تفسير الآيات (41- 45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (41- 45):

{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ (44) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يُغْرَفُ المجرمون} أي: الكفرة {بسيماهم} بسواد وجوههم، وزُرقة عيونهم، أو: بما يعلوهم من الكآبة والحزن. قيل: هو تعليل لقوله: {فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان} أي: لا يُسألون لأنهم معروفون، {فيُؤخذُ بالنواصي والأقدام} أي: يُجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم، وقيل: تسحبهم الملائكةُ، تارة يُأخذ بالنواصي، وتارة بالأقدام، فالجار نائب الفاعل، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} فإنَّ التخويف من هذه الأهوال قبل وقوعها من أجلّ النعم؛ ليقع الزجر عما يُؤدي إليها.
{هذه جهنمُ التي يُكذِّب بها المجرمون} أي: يُقال لهم: هذه جهنم التي كذبتم بها، توبيخاً وعقاباً، {يطوف بينهما وبين حميمٍ آنٍ} أي: بالغ من الحرارة أقصاها، فالحميم: المار الحار، والآنِ: البالغ في الحرارة، فهم يُعذّبون بين الحرق بالنار وشرب الحميم الحار. قال كَعْب: إن وادياً من أودية جهنم، يجتمع فيه صديد أهل النار، ينغمسون بأغلالهم فيه، حتى يخلع أوصالهم، ثم يُخرجون منها، وقد أحدث اللّهخ لهم خلقاً جديداً، فيُلقون في النار، فذلك قوله تعالى: {يطوفون بينها وبين حميمٍ آنٍ}، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}، وقد تقدّم تفسير كون هذا نِعماً مراراً.
الإشارة: فسَّر القشيري {المجرمون} هنا بطائفتين، الأولى: المتشدقون من علماء الكلام، الذي يتكلمون في ذاته وصفاته وأفعاله بما ليس لهم به علم، ويُجادلون أربابَ الكشف والشهود بسبب علومهم الجدلية، ويفوهون بقوة الجبهة وصلابة الناصية، فلا شك أنهم يُجرون على ناصيتهم في نار البُعد والطرد عن مراتب أهل العرفان. الطائقة الثانية: المتصوفة الجاهلة، المنقطعون عن الطريق المستقيم، والمنهج القويم، بسبب دخولهم في هذه الطريق بالتقليد، من غير إذن شيخ كامل، واصِلٍ مُوصِل، فلا شك أنهم يخرجون بأقدامهم المُعْوَجة عن سلوك طريق الحق إلى نار البُعد والقطيعة. اهـ. بالمعنى. والسيما التي يُعرفون بها، إما علو النفس، وغِلظة الطبع، وطلب الجاه، وإما قلقة اللسان، وإظهار العلوم، فالعارف الكامل بعكس هذا كله، متواضع، سهل، لَيِّن، الخفاء أحب إليه من الظهور، لسان حاله أفصح من مقاله. ثم قال تعالى: {هذه جهنم التي يُكذِّب بها المجرمون} المتقدمون، لأنهم ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا. وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً، {يطوفون بينها} أي: بين نار القطيعة وحميم التدبير والاختيار، مِن هَمّ الرز، وخوف الخلق، وغم الحجاب: نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.

.تفسير الآيات (46- 61):

{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ولِمَنْ خافَ مقامَ ربه} أي: قيامه بين يديه للحساب {يوم يقوم الناس لرب العالمين} أو: قيامه تعالى على أحواله، من: قام عليه، إذا راقبه، كقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]. قال مجاهد: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر الله تعالى، فيدعها من خوفه. قال السدي: شيئا، مفقودان: الخوف المزعج، والشوق المقلق. اهـ. أي: للخائف {جنتانِ} أي: بستانان من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، مسيرة كل بستان: مائة سنة. وقال صلى الله عليه وسلم: «هل تدرون ما هاتان الجنتان؟ هما بستانان في بستانين، قرارهما لابث، وفرعهما ثابت، وشجرهما نابت»، أَكْرَم بهما المؤمن ليتكامل سروره بالتنقُّل لمن جنة إلى جنة، وقيل: جنة لخوفه وجنة لتركه شهوته، أو: جنة لعقيدته وجنة لعمله، أو: جنة لفعل الطاعة وجنة لتركه المعصية، أو: جنة يُثاب بها وجنة يُتفضل عليه بها، أو: روحانية وجسمانية، أو: جنة للسابقين وجنة لأهل اليمين، أو: جنة للإنس وجنة للجن؛ لأنّ الخطاب للثقلين، كأنه قيل: لكل خائف منكما جنتان. والأول أرجح، وسيأتي في الإشارة بقيته، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
ثم وصف تلك الجنتين بقوله: {ذَوَاتا أفَنانٍ} أغصان، جمع فَنن، وخصّ الأفنان لأنها هي التي تُورق، ومنها تُجنى الثمار، وتعقد الظلال، أو جمع فَنّ، بمعنى النوع، أي: ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، مما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} وليس فيها شيء يقبل التكذيب.
{فيهما} أي: في الجنتين {عينانِ تجريان} حيث شاؤوا إلى الأعالي والأسافل. وعن الحسن: تجريان بالماء الزلال، إحداهما: التسنيم، والأخرى: السلسبيل، وقيل: بالماء والخمر، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان}، {فيهما من كل فاكهةٍ زوجان} صنفان، صنف معروف وصنف غريب، أو رطب ويابس. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
{متكئينَ} نصب على المدح للخائفين، أو: حال منهم؛ لأنّ مَن خاف في معنى الجمع، {على فُرُش بطائنُها من إِستبرقٍ} من ديباج ثخين، وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظاهرها؟ وقيل: ظاهرها سُندس، وقيل: من نور، وقيل: لا يعلمها إلاّ الله. والبطائن: جمع بطانة، وهو: ما يلي الأرض، والإستبرق معرَّب، {وجَنَى الجنتين دانٍ} أي: ما يجتنى من أشجارها من الثمار قريب، يناله القائم والقاعد والمضطجع. قال ابن عباس رضي الله عنه: تدنو الشجيرة حتى يجنيها وليُّ الله، إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً، وإن شاء مضطجعاً.
قال القشيري: وفي الخبر المسند: مَن قال سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، غرس له بها ألف شجرة في الجنة، أصلها الذهب، وفرعها الدر، وطلعها كثدي الأبكار، ألين من الزبد، وأحلى من العسل، كلما أُخذ منها شيء عاد كما كان، وذاك قوله تعالى: {وجَنَى الجنتين دانٍ} إذا أرادوه أتى إلى أفواههم، حتى يتناولون من غير مشقة، ويقال: ينالها القائم والقاعد والنائم. اهـ.
{فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}، {فيهن} أي: الجنتين؛ لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس، أو: في هذه الآلاء المعدودة، من الجنتين والعينين والفاكهة والغرس والجَنْي، {قاصراتُ الطَّرْفِ} جَوار قَصَرْنَ أبصارَهنّ على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم، {لم يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ} أي: لم يمس الإنسيات أحدٌ من الإنس، لا الجنيات أحدٌ من الجن. والطمث: الجماع بالتدمية. وفي الآية دليل على أنّ الجن يطمثون كما يطمث الإنس. {فبأي آلاء رَبكما تُكذِّبان كأنهنَّ} أي: تلك الجوار {الياقوتُ} صفاءً {والمَرْجانُ} بياضاً، على أنَّ المرجان صغار الدر، أو: في الصفاء وحُمرة الوجه. قيل: إنَّ الجواري تلبس سبعين حلة، فيُرى مُخ ساقها من ورائها، كام يرى الشراب الأحمر في الزجاجة. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
{هل جزاءُ الإِحسان إِلاَّ الإِحسانُ} هو استئناف مقرر لما فصّل قبله، أي: ما جزاء الإحسانِ في العمل إلاّ الإحسانُ في الثواب، قال أنس: قرأها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قال: هل جزاءُ مَن أنعمتُ عليه بالتوحيد إلاّ الجنة» وفي لفظ آخر: «هل جزاء مَن أنعمت عليه بتوحيدي ومعرفتي إلاّ أن أُسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي» أو: هل جزاء مَن قال «لا إله إلا الله» إلاَّ الجنة. قال السدي: هل جزاء الذين أطاعوا في الدنيا إلاّ الكرامة في الآخرة. وقال جعفر الصادق: هل جزاء مَن أحسنتُ إليه في الأزل إلاَّ حفظ الإحسان عليه في الأبد. قال الحسن: هي مسجلة- أي مطلقة- للبر والفاجر، للفاجر في دنياه، وللبَر في عُقباه. اهـ. {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان}.
الإشارة: {ولمن خاف مَقام ربه} فرَاقَبه، ثم شاهَده، {جنتان} جنة المعارف مُعجّلة، وجنة الزخارف معها مُؤجلة، أو: جنة المعارف لأرواحهم، وجنة الزخارف لأشباحهم. قال القشيري: جنتان: جنة مُعَجَّلة من حلاوة الطاعة ورَوْح القرب، ومؤجَّلة في الآخرة، وهي جنة الثواب، وهم مختلفون في جنان الدنيا على قدر تفاوت مقادير أحوالهم، كما يختلفون في الآخرة في درجاتهم. اهـ. فجنة حلاوة الطاعة لأهل اليمين، وجنة روح القرب للمقربين. قال الورتجبي: جنتان: جنة المشاهدة وجنة المكالمة، جنة المحبة وجنة المكاشفة، جنة المعرفة وجنة التوحيد، جنة المقامات وجنة الحالات، جنة القلب وجنة الروح، جنة الكرامات وجنة المداناة. اهـ. أو: جنة الوصال وجنة الكمال، أو: جنة الكمال وجنة التكميل، أو جنة الفناء وجنة البقاء، أو جنة البقاء وجنة الترقِّي إلى غير انتهاء.
وقوله تعالى: {ذواتا أفنان} يُشير إلى ما في هاتين الجنتين من فنون العلوم والأذواق، والأسرار والأنوار، وتفنُّن الأفكار في بحار الأسرار، فيهما لكل واحدٍ عينان تجريان، إحداهما بعلوم الشريعة والمعاملة وآداب العبودية، وأخرى بعلوم الحقيقة والطريقة والتوحيد الخاص، فيهما من كل فاكهةٍ من فواكه الأذواق صنفان: صنف حاصل، وصنف يتجدّد بتجدُّد الأنفاس، أو: صنف لعالم الحكمة، وصنف لعالم القدرة، أو: صنف للذات وصنف للصفات، أو: صنف لحلاوة المشاهدة وصنف لآداب المعاملة.
متكئين على فُرش الأُنس، بطائنها من استبرق الروح والفَرح ودوام البِسط، وجنا الجنتين دانٍ لمَن تمكّن من الشهود؛ لأنّ ثمار المعارف من حلاوة الشهود والأُنس صارت طوع يده، فشُهوده دائم، وقُربه للحبيب لازم، فمهما أجال فكرته غاصت في بحار الأحدية، واستخرجت من يواقيت الحِكَم، وجواهر العلوم، ما لا يُحيط به المفهوم، بخلاف غير المتمكن، تعب الفكرة ينقص له من لذة الشهود. قال القشيري: إذ لا لذة في أوائل المشاهدة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارزقني لذةَ النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضرّاء مضرة...» الحديث. اهـ. فِيهن قاصرات الطرف، أي: أبكار الحقائق خاصة بهم لا تنكشف لغيرهم. لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان؛ لم يمس تلك الحقائق غيرهم، لأنها خاصة بأهل الأذواق، وكل واحد يمس من الحقائق ما لا يمس غيره، وينكشف له ما لا ينكشف لغيره، لأنها على حسب الاستعداد. كأنهن- أي: تلك الحقائق- الياقوتُ في صفاء معناها، والمرجان في حسن مبناها، هذا جزاء أهل مقام الإحسان.
{هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان} أي: هل جزاء أهل مقام الإحسان إلاَّ الإحسان والتقريب والتخصيص بهذه العلوم والحقائق، أو: هل جزاء الإحسان معنا إلا الإحسان بكشف ذاتنا، أو: هل جزاء الإحسان إلى عبادي إلاّ الإحسانُ بقربي وولايتي. قال ابن جزي: ويحتمل أن يكون الإحسان هنا هو الذي سأل عنه جبريل عليه السلام «أن تعبد الله كأنك تراه» فجعل جزاء ذلك الإحسان بهاتين الجنتين، ويُقوي ذلك: انه جعل هاتين الجنتين الموصوفتين هنا لأهل المقام العَلي؛ وجعل جنتين وجعل جنتين دونهما لمَن كان دون ذلك، فالجنتان المذكورتان أولاً للسابقين، والمذكورتان بعد ذلك لأصحاب اليمين، حسبما ورد في الواقعة. انظر تمامه.

.تفسير الآيات (62- 78):

{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ومِن دونهما جنتانِ} أي: ومن دون تَيْنِك الجنتين الموعودتين للمقربين {جنتان} أخريان لِمن دونهم من أصحاب اليمين، ويؤيده حديث أبي موسى، قال في هذه الآية. {ولمن خاف مقام ربه} قال: «جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من وَرِق لأصحاب اليمين» ورَفَعه، ولا شك أنَّ الذهب أرفع من الوَرِق، فلا يلتفت إلى الفضة مَن له الذهب، خلافاً لمن قال: يلزم حرمان أهل الطبقة الأولى- وهم السابقون- ما ذكر في الحديث من الفضة، واختار في نوادر الأصول أنَّ قوله: {ومن دونهما} أي: في القُرب إلى العرش، وأنَّ هذه أعلى وَصْفاً مما ذكر قبلُ، إلى العرش، وبَسَطَ القول في ذلك، ومثله ذكره ابن عطية عن ابن عباس، واحتج لذلك، ولكن الأكثرعلى خلاف ذلك، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
{فبأي آلاء ربكما تُكّذِبان مُدْهامَّتان} خضراوان تميلان إلى السواد، من شدة الخضرة، وفيه إشعار بأنَّ الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض، وعلى الأُوليين الأشجار والفواكه، ومَن اشتهى فيها شيئاً يُعطاه، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} كرر التوبيخ مع ذكر الموصوف ومع صفته تنبيهاً على أنّ تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار، {فيهما عينان نَضَّاختان} فوّارتان بالماء، والنضخ أكثر من النضح- بالمهملة- وهو الرش، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان}.
{فيهما فاكهةُ ونخلٌ ورمانٌ} عطف الأخيرين على الفاكهة عطف خاص على عام؛ لفضلهما، فإنَّ ثمر النخل فاكهة وغذاء، والرمان فاكهة ودواء. قال أبو حنيفة: مَن حَلَفَ لا يأكل فاكهة فأكل رُماناً أو رطباً لم يحنث، وقوفاً مع ظاهر العطف، وعندنا الأَيمان مبنية على الأعراف، وهي تختلف باختلاف الأقطار. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} ولا شيء منها يقبل الإنكار.
{فيهنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ} أي: في الجنتين المشتملتين على قصور ومساكن نساء {خيرات} أي: فاضلات الخُلُق، حِسان الخَلْق، وهو مخفف من خير بالتشديد، وقرئ {خيِّرات} على الأصل، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}. {حُورٌ} بدل من {خيرات} {مَقصوراتٌ في الخيام} قُصِرن في خدورهن. يقال: امرأة قصيرة وقَصُورة، ومقصورة، أي مخدّرة، أو: مقصورات الطرف على أزواجهن ساكنة في الخيام. قال القشيري: قصرن أنفسَهن وقلوبَهن وأبصارَهن على أزواجهن. اهـ. يقلن: نحن الناعماتُ فلا نبأس، الخالداتُ فلا نَبيدُ، الراضيات فلا نَسْخَط. وفي خبر: أن عائشة قالت: إنَّ المؤمنات أجَبْنَهُنَّ، نحن المُصلِّياتُ وما صلَّيْتُنَّ، نحن الصائمات وما صُمتُنَّ، نحن المتصدِّقاتُ وما تصدَّقْتنَّ، قالت عائشة: فغلبنهن. والخيام من الدر المجوف، {فبأي آلاء ربكنما تُكَذِّبان}. {لم يَطْمِثْهُن إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان}.
{متكئين} نصب على الاختصاص، {على رَفْرَفٍ} هو كل ثوب عريض، وقيل: هو الوسائد، والأظهر من الحديث أنه سرير مفروش بثياب خُضر، يركب فيه أهل الجنة، ويسير بهم حيث شاؤوا، وقوله: {خُضْرٍ}، وصف لرفرف؛ لأنه مُحلّى بثيابٍ خُضر، والرفرف: إما اسم جنس، أو اسم جمع، واحده: رفرفة.
{وعبقريٍّ حِسَانٍ} أي: طنافس، وهي جياد البُسط، كالزرابي وشبهها. والعبقري: منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه اسم بلد الجن، يسبون إليه كل شيء عجيب. وقال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يُعمل فيها الوَشي، فينسب إليها كل مبالغ في الوصف، وقال الخليل: كل جليل فاضل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب عبْقري، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عمر: «فلم أرَ عَبْقريّاً من الناس يَفْرِي فَرْيَه» والمراد به الجنس، ولذلك وصفه بالجمع، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} قال النسفي: وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل: ومن دونهما لأنَّ {مدهامتان} دون {ذواتا أفنان}، و{نضّاختان} دون {تجريان}، و{فاكهة} دون {من كل فاكهة زوجان}، وكذلك صفة الحور والمتّكأ. اهـ.
{تبارك اسمُ ربك} أي: تنزّه وتقدّس، أو تكاثر خيره. وفيه تقرير لما ذكر في السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام، {ذي الجلال} ذي العظمة. وقرأ الشامي بالرفع، صفة لاسم، {والإكرام} لأوليائه بالإنعام.
قيل: لمَّ ختم تعالى نِعم الدنيا بقوله: {ويبقى وجهُ ربك ذي الجلال والإِكرام} ختم نِعم الآخرة بقوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} وناسب هذا ذكر البقاء والديمومية له تعالى، إذ ذكر فناء العالم، وناسب هنا ذكر ما امتنّ به من البركة، وهي الخير والزيادة، إذ جاء ذلك عقب ما امتنّ به على المؤمنين، وما آتاهم في دار كرامته من الخير وزيادته وديمومته.
روَى جابر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن، فقال: «ما لي أراكم سكوتاً، لَلْجِنُّ كانوا أحسن منكم ردّاً، ما أتيتُ على قول الله: {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} إلاَّ قالوا: ولا شيء من نعمك ربنا نكذِّب، فلك الحمد ولك الشكر».
وكررت هذه الآية في هذه السورة إحد وثلاثين مرة، ذُكرت ثمانية منها عقب آيات فيها عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، على عدد أبوب جهنم، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلها، على عدد أبوب الجنة، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما، فمَن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها فُتحت له أبواب الجنة وغُلقت أبواب جهنم. قاله النسفي.
الإشارة: ومن دون جنتي أهل المقربين جنتا أهل اليمين، وهما جنة حلاوة الطاعة وكمال الاستقامة، أو حلاوة المعاملات وظهور الكرامات، أو حلاوة المناجاة وحصول المداناة، أو: جنة مُعجَّلة في البرزخ لأرواحهم، وأخرى بعد البعث لأشباحهم، وهذا يجري أيضاً في حق المقربين.
وقوله: {مُدْهامتان} شديدة خضرتها؛ لانَّ النظر إلى الخضرة أمْيَلُ، وكذلك أهل العبادة الظاهرية حين يجدون حلاوتها، ويقفون معها، ترمُقهم أبصار العامة بالتعظيم والتكريم، فربما يجنون بعض جزاء أعمالهم، بخلاف أهل الباطن، أهل الفناء والبقاء، لا ترى منهم إلاّ النيران؛ لفرارهم من الخلق، ولخفاء عبادتهم بين فكرة ونظرة، فيهما عينان نضاختان فوارتان بالعلوم الظاهرة التي أثمرتها التقوى، لقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، وكثرة العلوم كمال عند أهل الظاهر، ولا يعتبره أهل الباطن؛ إذ المدار عندهم على الأذواق والوجدان، وتحقيق عين العيان. وفي كتاب شيخ شيوخنا، سيدي عليّ العمراني رضي الله عنه قال: علم الحرب وما جرى بينهم إنما يوجد عند المستشرف على المعركة، وأمّا المباشِر للحرب فهو في شغل شاغل عنه.
فيها فاكهة، أي: تفنُّن في تحقيق المسائل، ونخل؛ تضلُّع من علم الحديث، ورُمان؛ تغلغل في التفسير، أو: فيهما فاكهة تحقيق علم المعاملة، ونخل تحقيق علم الاعتقادات المجازية، ورمان تمسك بعلم التصوُّف، الذي هو دواء القلوب، فيهن خيرات حسان في تلك الجنان أخلاق حسان، وهي ثمرة العلم النافع، حور مقصورات في الخيام، أي: تلك الأخلاق الطيبة مقصورة على قلوب أهل الصفا، لا تظهر إلا لهم، أو: في تلك الجنان الذي هي القلوب، علوم غريبة، لم تكشف لغيرهم، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان؛ لم يفك انغلاقها أحد قبلهم. وفي التسهيل: وإذا كانت العلوم مِنحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لكثير من المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين. اهـ. متكئين على رَفرفٍ، أي: بساط فكرة الاعتبار، يستخرج بها جواهر العلوم، ووصفه بالخضرة لظهور أثر فكرهة الاعتبار بما تجليه من العلوم، وفي الحديث: «ساعة من العالِم يتفكر في علمه خير من عبادة الجاهل ألف سنة» أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وكذلك وصفه بالعبقرية والجَودة؛ لكماله في محله. {تبارك اسم ربك} أي: تعاظم قدره {ذي الجلال والإكرام} حيث مَنَّ بهذه النعم الجِسام على الفريقين، وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، وصلّى على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم.